|
الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
عاشرها: أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه متضمن للطلب منه والثناء عليه بأسمائه وأوصافه فهو ذكر وزيادة كما أن الذكر سمي دعاء لتضمنه الطلب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم: «أفضل الدعاء: الحمد لله» فسمى الحمد لله دعاء وهو ثناء محض لأن الحمد يتضمن الحب والثناء والحب أعلى أنواع الطلب للمحبوب فالحامد طالب لمحبوبه فهو أحق أن يسمى داعيا من السائل الطالب من ربه حاجة ما فتأمل هذا الموضع ولا تحتاج إلى ما قيل إن الذاكر متعرض للنوال وإن لم يكن مصرحا بالسؤال فهو داع بما تضمنه ثناؤه من التعرض كما قال أمية بن أبي الصلت:
وعلى هذه الطريقة التي ذكرناها فنفس الحمد والثناء متضمن لأعظم الطلب وهو طلب المحب فهو دعاء حقيقة بل أحق أن يسمى دعاء من غيره من أنواع الطلب الذي هو دونه والمقصود أن كل واحد من الدعاء والذكر يتضمن الآخر ويدخل فيه وقد قال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} فأمر تعالى نبيه أن يذكره في نفسه قال مجاهد وابن جريج: أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع والاستكانة دون رفع الصوت أو الصياح وقد تقدم حديث أبي موسى: «كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال: يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إنما تدعون سميعا قريبا أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته». رواه البخاري ومسلم.وتأمل كيف قال في آية الذكر {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً} وفي آية الدعاء {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} فذكر التضرع فيهما معا وهو التذلل والتمسكن والانكسار وهو روح الذكر والدعاء وخص الدعاء الخفيه لما ذكرنا من الحكم وغيرها، وخص الذكر بالخفيه لحاجة الذاكر إلى الخوف فإن الذكر يستلزم المحبة ويثمرها ولابد فمن أكثر من ذكر الله تعالى أثمر له ذلك محبته والمحبة ما لم تقرن بالخوف فإنها لا تنفع صاحبها بل قد تضره لأنها توجب الإدلال والانبساط وربما آلت بكثير من الجهال المغرورين إلى أنهم استغنوا بها عن الواجبات وقالوا المقصود من العبادات إنما هو عبادة القلب وإقباله على الله ومحبته له وتألهه له فإذا حصل المقصود فالاشتغال بالوسيلة باطل ولقد حدثني رجل إنه أنكر على رجل من هؤلاء خلوة له ترك فيها حضور الجمعة فقال له الشيخ: أليس الفقهاء يقولون: إذا خاف على شيء من ماله فإن الجمعة تسقط عنه؟ فقال له: بلى، فقال له: فقلب المريد أعز عليه من ضياع عشرة دراهم أو كما قال وهو إذا خرج ضاع قلبه فحفظه لقلبه عذر مسقط للجمعة في حقه، فقال له: هذا غرور بل الواجب عليه الخروج إلى أمر الله وحفظ قلبه مع الله فالشيخ المربي العارف يأمر المريد بأن يخرج إلى الأمر ويراعى حفظ قلبه أو كما قال. فتأمل هذا الغرور العظيم كيف آل بهؤلاء إلى الانسلاخ عن الإسلام جملة فإن من سلك هذا المسلك انسلخ عن الإسلام العام كانسلاخ الحية من قشرها وهو يظن أنه من الخاصة أنواع العبادة، سبب هذا اقتران الخوف من الله تعالى بحبه وإرادته ولهذا قال بعض السلف: من عبد الله تعالى بالحب وحده فهو زنديق ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجي ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن، وقد جمع الله تعالى هذه المقامات الثلاثة بقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} فابتغاء الوسيلة هو محبته الداعية إلى التقرب إليه ثم ذكر بعدها الرجاء والخوف فهذه طريقة عبادة وأوليائه وربما آل الأمر بمن عبده بالحب المجرد إلى استحلال المحرمات ويقول المحب لا يضره ذنب. وصنف بعضهم في ذلك مصنفا وذكر فيه أثرا مكذوبا إذا أحب الله العبد لم تضره الذنوب وهذا كذب قطعا مناف للإسلام فالذنوب تضر بالذات لكل أحد كضرر السم للبدن ولو قدر أن هذا الكلام صح عن بعض الشيوخ وأما عن رسول الله فمعاذ الله من ذلك فله محمل وهو أنه إذا أحبه لم يدعه حبه إياه إلى أن يصر على ذنب لأن الإصرار على الذنب مناف لكونه محبا لله وإذا لم يصر على الذنب بل بادر إلى التوبة النصوح منه فإنه يمحو أثره ولا يضر الذنب وكلما أذنب وتاب إلى الله زال عنه أثر الذنب وضرره فهذا المعنى صحيح والمقصود أن تجريد الحب والذكر عن الخوف يوقع في هذه المعاطب فإذا اقترن بالخوف جمعه على الطريق ورده إليها كلما شرد فكأن الخوف سوط يضرب به مطيته لئلا تخرج عن الدرب، والرجاء حاد يحدوها يطيب لها السير، والحب قائدها وزمامها الذي يسوقها، فإذا لم يكن للمطية سوط ولا عصا يردها إذا حادت عن الطريق وتركت تركب التعاسيف خرجت عن الطريق وضلت عنها، فما حفظت حدود الله ومحارمه ووصل الواصلون إليه بمثل خوفه ورجائه ومحبته، فمتى خلا القلب عن هذه الثلاثة فسد فسادا لا يرجى صلاحه أبدا ومتى ضعف فيه شيء من هذه ضغف إيمانه بحسبه اقتران الخيفة والخفية بالذكر والدعاء.فتأمل أسرار القرآن الكريم وحكمته في هذا الاقتران فإنه قال: {اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ} فلم يحتج بعدها أن يقول: خفية وقال في الدعاء: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} فلم يحتج أن يقول في الأول ادعوا ربكم تضرعا وخيفة فانتظمت كل واحدة من الآيتين للخيفة والخفية والتضرع أحسن أنتظام ودلت على ذلك أكمل دلالة.وذكر الطمع الذي هو الرجاء في آية الدعاء لأن الدعاء مبني عليه فإن الداعي ما لم يطمع في سؤله ومطلوبه لم تتحرك نفسه لطلبة إذ طلب ما لا طمع فيه ممتنع.وذكر الخوف في آية الذكر لشدة حاجة الخائف إليه كما تقدم فذكر في كل آية ما هو اللائق بها والأولى بها من الخوف والطمع فتبارك من أنزل كلامه شفاء لما في الصدور وهدي ورحمة للمؤمنين.
وهو أحسن من أن يقال: ادعوه متضرعين خائفين والذي حسنه أن المأمور به هنا شيئان الدعاء الموصوف المقيد بصفة معينة وهي صفة التضرع والخوف والطمع فالمقصود تقييد المأمور به بتلك الصفة وتقييد الموصوف الذي هو صاحبها بها فأتى بالحال على لفظ المصدر لصلاحيته لأن يكون صفة للفاعل وصفة للفعل المأمور به فتأمل هذه النكتة فإنك إذا قلت: اذكر ربك تضرعا فإنك تريد اذكره متضرعا إليه واذكره ذكر تضرع فأنت مريد للأمرين معا ولذلك إذا قلت: ادعه طمعا أي ادعه دعاء طمع وادعه طامعا في فضله وكذلك إذا قلت ادعه رغبة ورهبة كقوله تعالى: {إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغبا ورهبا} كان المراد ادعه راغبا وراهبا وادعه دعاء رغبة ورهبة. فتأمل هذا الباب تجده كذلك فأتى فيه بالمصدر الدال على وصف المأمور به بتلك الصفة وعلى تقييد الفاعل بها تقييد صاحب الحال بالحال ومما يدل على هذا أنك تجد مثل هذا صالحا وقوعه جوابا لكيف فإذا قيل كيف أدعوه قيل تضرعا وخفية وتجد اقتضاء كيف لهذا أشد من اقتضاء لم ولو كان مفعولا له لكان جوابا ل لم ولا تحسن هنا ألا ترى أن المعنى ليس عليه فإنه لا يصح أن يقال لم أدعوه فيقول تضرعا وخفية وهذا واضح ولا هو أنتصاب على المصدر المبين للنوع الذي لا يتقيد به الفاعل لما ذكرناه من صلاحيته جوابا لكيف، وبالجملة فالمصدرية في هذا الباب لا تنافي الحال بل الإتيان بالحال هاهنا بلفظ المصدر يفيد ما يفيده المصدر مع زيادة فائدة الحال فهو أتم معنى ولا تنافي بينهما والله أعلم.
|